بسم الله الرحمن الرحيم
حكم تارك الصلاة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرورأنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليهوعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن كثيراً من المسلمين اليوم تهاونوا بالصلاة، وأضاعوهاحتى تركها بعضهم تركاً مطلقاً تهاوناً.
ولما كانت هذه المسألة من المسائل العظيمة الكبرى التي ابتلى بهاالناس اليوم، واختلف فيها علماء الأمة، وأثمتها، قديماً وحديثاً أحببت أن اكتب فيهاما تيسر.
* الفصل الأول: في حكم تارك الصلاة.
* الفصل الثاني: فيما يترتب على الردة بترك الصلاة أو غيرها.
نسأل الله تعالى لأن نكون فيها موفقين للصواب.
الفصل الأول
حكم تارك الصلاة
إن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى، وقد تنازع فيها أهل العلمسلفاً وخلفاً، فقال الإمام أحمد بن حنبل: "تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً منالملة،يقتل إذا لم يتب ويصل".
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: "فاسق ولا يكفر".
ثم اختلفوا فقال مالك والشافعي: "يقتل حداً..". وقالأبو حنيفة: "يعزز ولا يقتل.."
وإذا كانت هذه المسألة من مسائل النزاع، فالواجب ردها إلى كتاب اللهتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لقوله تعالى:
{} وما اختلفتم فيه من شيءفحكمه إلى الله
(الشورى:10)
وقوله: {فإن تنازعتم فيشيء،فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسنتأويل} (النساء:59).
ولأن كل واحد من المختلفين لا يكون قوله حجة على الآخر، لأن كل واحديرى الصواب معه، وليس أحدهما أولى بالقبول من الآخر، فوجب الرجوع في ذلك إلى حكمبينهما وهو كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا رددنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة، وجدنا أن الكتاب والسنةكلاهما يدل عل كفر تارك الصلاة، الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
أولا: من الكتاب:
قال تعالى في سورة التوبة:
{فإن تابوا وأقاموا الصلاةوآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}
(التوبة:11).
وقال في سورة مريم: {فخلف من بعدهم خلف أضاعواالصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً، فأولئكيدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} (مريم:59،60).
فوجه الدلالة من الآية الثانية، آية سورة مريم، أن الله قال: فيالمضيعين للصلاة، المتبعين للشهوات: {إلا من تاب وآمن} فدل، على أنهم حينإضاعتهم للصلاة، واتباع الشهوات غير مؤمنين.
ووجه الدلالة من الآية الأولى، آية سورة التوبة، أن الله تعالىاشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين، ثلاثة شروط:
* أن يتوبوا من الشرك.
* أن يقيموا الصلاة.
* أن يؤتوا الزكاة.
فإن تابوا من الشرك، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، فليسوابإخوة لنا.
وإن أقاموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوة لنا.
والأخوة في الدين لا تنتفي إلا حيث يخرج المرء من الدين بالكلية،فلا تنتفي بالفسوق والكفر دون الكفر.
ألا ترى إلى قوله تعالى: في آية القصاص من القتل: {فمن عفي له من أخيه شيءفاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (البقرة:178)، فجعل اللهالقاتل عمداً أخاً للمقتول، مع أن القتل عمداً من أكبر الكبائر، لقول الله تعالى:{ومن يقتل مؤمناًمتعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباًعظيماً} (النساء:93).
ثم ألا تنظر إلى قوله تعالى في الطائفتين من المؤمنين إذااقتتلوا: {وإنطائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} إلى قوله: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوابين أخويكم} (الحجرات:9،10)، فأثبت الله تعالى الأخوة بينالطائفة المصلحة والطائفتين المقتتلتين، مع أن قتال المؤمن من الكفر، كما ثبت فيالحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلىالله عليه وسلم قال: [سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر]. لكنه كفر لا يخرج منالملة، إذ لو كان مخرجا من الملة، ما بقيت الأخوة الإيمانية معه. الآية الكريمةقد دلت على بقاء الأخوة الإيمانية مع الاقتتال.
وبهذا علم أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، إذ لو كان فسقا أو كفرادون كفر، ما انتفت الأخوة الدينية به، كما لم تنتف بقتل المؤمن وقتاله.
فإن قال قائل: (هل ترون كفر تارك إيتاء الزكاة كما دل عليهمفهوم آية التوبة)؟
قلنا: (كفر تارك إيتاء الزكاة، قال به بعض أهل العلم -وهو إحدىالروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى-).
ولكن الراجح عندنا أنه لا يكفر، لكنه يعاقب بعقوبة عظيمة، ذكرهاالله تعالى في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ومنها ما في حديثأبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر عقوبة مانع الزكاة، وفيآخره، ثم يرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار، وقد رواه مسلم بطوله في: باب"إثم مانع الزكاة"، وهو دليل على أنه لا يكفر، إذ لو كان كافرا ما كان له سبيلإلى الجنة.
فيكون منطوق هذا الحديث مقدما على مفهوم آية التوبة، لأن المنطوقمقدم على المفهوم، كما هو معلوم في أصول الفقه.
ثانيا : من السنة :
1) قال صلى الله عليه وسلم: [إن بين الرجل وبين الشرك،والكفر، ترك الصلاة]. (رواه مسلم في كتاب الإيمان عن جابر بن عبد الله، عنالنبي صلى الله عليه وسلم).
2) وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلىالله عليه وسلم، يقول: [العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقدكفر]. (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه).
والمراد بالكفر هنا، الكفر المخرج عن الملة، لأن النبي صلى اللهعليه وسلم، جعل الصلاة فصلا بين المؤمنين والكافرين، ومن المعلوم أن ملة الكفر غيرملة الإسلام، فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين.
3) وفي صحيح مسلم، عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى اللهعليه وسلم، قال: [ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم،ولكن من رضي وتابع]. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: [لا ما صلوا].
4) وفي صحيح مسلم أيضا، من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، أنالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: [خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلونعليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهمويلعنونكم]. قيل: يا رسول الله: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: [لا ماأقاموا فيكم الصلاة].
ففي هذين الحديثين الأخيرين، دليل على منابذة الولاة، وقتالهمبالسيف، إذا لم يقيموا الصلاة، ولا تجوز منازعة الولاة وقتالهم، إلا إذا أتوا كفراصريحا، عندنا فيه برهان من الله تعالى، لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه:[دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا، أن بايعناعلى السمع والطاعة، في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازعالأمر أهله]. قال: [إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان](متفق عليه).
وعلى هذا فيكون تركهم للصلاة الذي علق عليه النبي صلى الله عليهوسلم، منابذتهم وقتالهم بالسيف كفرا بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر أو أنه مؤمن،وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدارسول الله، وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بقيود في النص نفسه يمتنع معها أن يتركالصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة، وإما عامة فتحملعلى أدلة كفر تارك الصلاة، لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة والخاص مقدم على العام.
فإن قال قائل: (ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تاركالصلاة على من تركها جاحدا لوجوبها؟!).
قلنا: (لا يجوز ذلك لأن فيه محذورين:
الأول: إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به.
فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود.
ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة، دون الإقرار بوجوبها لم يقلالله تعالى: فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلمبين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة. أو العهد الذي بيننا وبينهمالإقرار بوجوب الصلاة، فمن جحد وجوبها فقد كفر.
ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيانالذي جاء به القرآن الكريم، قال الله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانالكل شيء} (النحل:89).
وقال تعالى مخاطبا نبيه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبينللناس ما نزل إليهم}. (النحل:44).
الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطا للحكم:
فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواءصلى أم ترك.
فلو صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط، وأركان،وواجبات، ومستحبات، لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافرا مع أنه لميتركها.
فتبين بذلك أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحدا لوجوبها غيرصحيح، وأن الحق أن تارك الصلاة كافرا كفرا مخرجا عن الملة، كما جاء ذلك صريحا فيمارواه ابن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال : أوصانا رسولالله صلى الله عليه وسلم: [لا تشركوا بالله شيئا، ولا تتركوا الصلاة عمدا، فمنتركها عمدا متعمدا فقد خرج من الملة].
وأيضا فإننا لو حملناه على ترك الجحود لم يكن لتخصيص الصلاة فيالنصوص فائدة، فإن هذا الحكم عام، في الزكاة، والصيام، والحج، فمن ترك منها واحداجاحدا لوجوبه كفر إن كان غير معذور بجهل.
وكما أن كفر تارك الصلاة مقتضى الدليل السمعي الأثري، فهو مقتضىالدليل العقلي النظري.
فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هو عمود الدين والتيجاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يقوم بها ويبادر إلى فعلها.وجاء من الوعيد على تركها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها؟فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقى إيمانا مع التارك.
فإن قال قائل: "ألا يحتمل أن يراد الكفر في تارك الصلاة كفربالنعمة لا كفر بالملة ؟ أو أن المراد به كفر دون الكفر الأكبر؟!".
فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم: [اثنتان بالناس هما بهم كفر:الطعن في النسب، والنياحة في الميت] وقوله: [سباب المسلم فسوق، وقتالهكفر]. ونحو ذلك.
قلنا: هذا الاحتمال والتنظير له لا يصح لوجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة حدا فاصلا بينالكفر والإيمان، وبين المؤمنين والكفار.
والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره. فالمحدودان متغايران لا يدخلأحدهما في الآخر.
الثاني: أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، فوصف تاركها بالكفريقتضي أنه الكفر المخرج من الإسلام.. لأنه هدم ركنا من أركان الإسلام، بخلافإطلاق الكفر على من فعل فعلاً من أفعال الكفر.
الثالث: أن هناك نصوصا أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفرا مخرجامن الملة.. فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق.
الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف.. ففي ترك الصلاة قال:[بين الرجل وبين الشرك والكفر]. فعبر بأل الدالة على أن المراد بالكفر حقيقةالكفر بخلاف كلمة -كفر- منكرا أو كلمة -كفر- بلفظ الفعل فإنه دال على أن هذا منالكفر، أو أنه كفر في هذه الفعلة وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) ص70 ط السنة المحمدية على قوله صلى الله عليه وسلم: [اثنتان في الناس هما بهمكفر].
قال: "فقوله: [هما بهم كفر] أي هاتان الخصلتان هما -كفر- قائم بالناس فنفس الخصلتين -كفر- حيث كانتا من أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس،لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق، حتى تقوم بهحقيقة الكفر. كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا حتىيقوم به أصل الإيمان وحقيقته. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى اللهعليه وسلم: [ليس بين العبد وبين الكفر، أو الشرك إلا ترك الصلاة، وبين كفر منكرفي الإثبات]" أ. هـ. كلامه.
فإذا تبين أن تارك الصلاة بلا عذر كافر كفرا مخرجا من الملة بمقتضىهذه الأدلة، كان الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل وهو أحد قولي الشافعيكما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعواالصلاة واتبعوا الشهوات (مريم:59). وذكر ابن القيم في"كتاب الصلاة" أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي، وأن الطحاوي نقله عن الشافعينفسه.
على هذا القول جمهور الصحابة، بل حكى غير واحد إجماعهم عليه .
قال عبد الله بن شقيق: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لايرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة". رواه الترمذي والحاكم وصححه علىشرطهما.
وقال إسحاق بن راهويه الإمام المعروف: "صح عن النبي صلى اللهعليه وسلم، أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى اللهعليه وسلم، إلى يومنا هذا، أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يخرج وقتهاكافر".
وذكر ابن حزم، أنه قد جاء عن عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبلوأبي هريرة وغيرهم من الصحابة قال: "ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة .نقله عنه المنذري في (الترغيب والترهيب )
وزاد من الصحابة: عبد الله بن مسعودوعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وأبا الدرداء رضي الله عنهم". قال:"ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن المبارك والنخعيوالحكم بن عتيبة وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهيربن حرب وغيرهم". أ. هـ.
فإن قال قائل: ما هو الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرىكفر تارك الصلاة؟
قلنا: الجواب أن هذه الأدلة لم يأت فيها أن تارك الصلاة لا يكفر،أو أنه مؤمن أو أنه لا يدخل النار، أو أنه في الجنة. ونحو ذلك.
ومن تأملها وجدها لا تخرج عن خمسة أقسام كلها لا تعارض أدلةالقائلين بأنه كفر.
القسم الأول:
أحاديث ضعيفة غير صريحة حاول موردها أن يتعلق بها ولم يأت بطائل.
القسم الثاني:
ما لا دليل فيه أصلا للمسألة.
مثل استدلال بعضهم، بقوله تعالى:
{إن الله لا يغفر أن يشركبه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}
(النساء:48). فإن معنى قولهتعالى:
مادون ذلك
ما هو أقل من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك، بدليل أن من كذببما أخبر الله به ورسوله، فهو كافر كفراً لا يغفر له وليس ذنبه من الشرك.
ولو سلمنا أن معنى
{ما دون ذلك}
ما سوى ذلك، لكان هذا من باب العامالمخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى الشرك والكفر المخرج عن الملة من الذنبالذي لا يغفر وإن لم يكن شركا.
القسم الثالث:
عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة.
مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل: [ما من عبديشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار]. وهذاأحد ألفاظه وورد نحوه من حديث أبي هريرة وعبادة بن الصامت وعتبان بن مالك رضي اللهعنهم.
القسم الرابع:
عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة .
مثل قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث عتبان بن مالك: [فإن اللهحرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله] (رواهالبخاري).
وقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث معاذ: [ما من أحد يشهد أن لاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار] (رواهالبخاري).
فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد، وصدق القلب، يمنعه من تركالصلاة، إذ ما من شخص يصدق في ذلك، ويخلص إلا حمله صدقه، وإخلاصه على فعل الصلاة.ولا بد فإن الصلاة عمود الإسلام، وهي الصلة بين العبد وربه، فإذا كان صادقا فيابتغاء وجه الله، فلا بد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك، ويتجنب ما يحول بينه وبينه،وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه، فلا بد أنيحمله ذلك إلى الصدق على أداء الصلاة مخلصا بها لله تعالى متبعا فيها رسول الله صلىالله عليه وسلم، لأن ذلك من مستلزمات تلك الشهادة الصادقة.
القسم الخامس:
ما ورد مقيدا بحال يعذر فيها بترك الصلاة.
كالحديث الذي رواه ابن ماجة عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسولالله صلى الله عليه وسلم: [يدرس الإسلام كما يدرس الثوب]
-الحديث- وفيه.وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: "أدركنا آباءنا على هذهالكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها" فقال له صلة:"[ما تغني عنهم لا إلهإلا الله وهم لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة" فأعرض عنه حذيفة ثمردها عليه ثلاثا كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: "يا صلةتنجيهم من النار" ثلاثاً.
فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار، كانوا معذورين بترك شرائعالإسلام، لأنهم لا يدرون عنها، فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه، وحالهم تشبهحال من ماتوا قبل فرض الشرائع، أو قبل أن يتمكنوا من فعلها، كمن مات عقيب شهادته،قبل أن يتمكن من فعل الشرائع، أو أسلم في دار الكفر فمات قبل أن يتمكن من العلمبالشرائع.
والحاصل أن ما استدل به من يرى كفر تارك الصلاة لا يقاوم ما استدلبه من يرى كفره، لأن ما استدل به أولئك، إما أن يكون ضعيفا غير صريح وإما ألا يكونفيه دلالة أصلا، وإما أن يكون مقيدا بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة، أو مقيدا بحاليعذر فيها بترك الصلاة، أو عاما مخصوصا بأدلة تكفيره!.
فإذا تبين كفره بالدليل القائم السالم عن المعارض المقاوم، وجب أنتترتب أحكام الكفر والردة عليه، ضرورة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
الفصل الثاني
فيما يترتب على الردة بترك الصلاة أو غيره
يترتب على الردة أحكام دنيوية وأخروية:
أولا: من الأحكام الدنيوية:
1. سقوط ولايته:
فلا يجوز أن يولى شيئاً يشترط في الولاية عليه الإسلام، وعلى هذافلا يولى على القاصرين من أولاده وغيرهم، ولا يزوج أحدا من مولياته من بناتهوغيرهن.
وقد صرح فقهاؤنا رحمهم الله تعالى في كتبهم المختصرة والمطولة:أنه يشترط في الولي الإسلام إذا زوج مسلمة، وقالوا "لا ولاية لكافر علىمسلمة".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا نكاح إلا بولي مرشد، وأعظمالرشد وأعلاه دين الإسلام، وأسفه السفه وأدناه الكفر والردة عن الإسلام. قال اللهتعالى: {ومنيرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} (البقرة:130).
2. سقوط إرثه من أقاربه:
لأن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر، لحديث أسامة بنزيد رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: [لا يرث المسلم الكافر،ولا الكافر المسلم]. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
3. تحريم دخوله مكة وحرمهما:
لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرامبعد عامهم هذا} [التوبة : الآية 28].
4. تحريم ما ذكاه من بهيمة الأنعام:
(الإبل والبقر والغنم) وغيرها مما يشترط لحله الزكاة.
لأن من شروط الذكاة: أن يكون المذكي مسلما أو كتابيا (يهوديا أونصرانيا)، فأما المرتد والوثني والمجوسي ونحوهم فلا يحل ما ذكاه.
قال الخازن في تفسيره: "أجمعوا على تحريم ذبائح المجوس وسائرأهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له".
وقال الإمام أحمد: "لا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحببدعة".
5. تحريم الصلاة عليه بعد موته، وتحريم الدعاء له بالمغفرةوالرحمة:
لقوله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروابالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} (التوبة:84). وقولهتعالى: {ماكان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبينلهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياهفلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم}(التوبة:113-114).
ودعاء الإنسان بالمغفرة والرحمة لمن مات على الكفر بأي سبب كان كفرهاعتداء في الدعاء، ونوع من الاستهزاء بالله، وخروج عن سبيل النبي والمؤمنين.
وكيف يمكن لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعو بالمغفرة والرحمةلمن مات على الكفر وهو عدو لله تعالى؟! كما قال عز و جل: {من كان عدوا للهوملائكتهورسله وجبريل وميكال، فإن الله عدو للكافرين}. فبين الله تعالى فيهذه الآية الكريمة أن الله تعالى عدو لكل الكافرين.
والواجب على المؤمن أن يتبرأ من كل كافر. لقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيملأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين}(الزخرف:26،27).
وقوله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم، والذين معه إذقالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكمالعداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} (الممتحنة:4). وليتحقق لهبذلك متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال الله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلىالناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله}(التوبة:3).
ومن أوثق عرى الإيمان: أن تحب في الله، وتكره في الله، وتوالي فيالله، وتعادي في الله، لتكون في محبتك، وكراهيتك، وولايتك، وعداوتك، تابعا لمرضاةالله عز وجل.
6. تحريم نكاحه المرأة المسلمة:
لأنه كافر والكافر لا تحل له المرأة المسلمة بالنص والإجماع.
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذاجاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلاترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (الممتحنة: 10).
قال في المغني 592/6: "وسائر الكفار غير أهل الكتاب لا خلاف بينأهل العلم في تحريم نسائهم، وذبائحهم) قال: والمرتدة يحرم نكاحها على أي دينكانت، لأنه لم يثبت لها حكم أهل الدين الذي انتقلت إليه في إقرارها عليه ففي حلهاأولى".
وقال في باب المرتد 130/8: "وإن تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقرعلى النكاح، وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة"(وفي مجمع الأنهر للحنفية آخر باب نكاح الكافر ص 202 ج1: "ولا يصح تزوجالمرتد ولا المرتدة أحداً" لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين).
فأنت ترى أنه صرح بتحريم نكاح المرتدة، وأن نكاح المرتد غير صحيح،فماذا يكون لو حصلت الردة بعد العقد؟!.
قال: في المغني 298/6: "إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخولانفسخ النكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول انفسخالنكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته بعد الدخول ففيه روايتان:إحداهما: تتعجل الفرقة. والثاني تقف على انقضاء العدة".
وفي المغني ص 639/6: "أن انفساخ النكاح بالردة قبل الدخول قولعامة أهل العلم، واستدل له وأن انفساخه في الحال إذا كان بعد الدخول قول مالك، وأبيحنيفة وتوقفه على انقضاء العدة قول الشافعي".
وهذا يقتضي أن الأئمة الأربعة متفقون على انفساخ النكاح بردة أحدالزوجين. لكن إن كانت الردة قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، وإن كانت بعدالدخول فمذهب مالك وأبي حنيفة الانفساخ في الحال، ومذهب الشافعي، الانتظار إلىانقضاء العدة. وعن أحمد روايتان كالمذهبين.
وفي ص 640 منه: "وإن ارتد الزوجان معا، فحكمهما حكم ما لو ارتدأحدهما إن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة، وإن كان بعده فهل تتعجل أو تقف على انقضاءالعدة على روايتين؟ وهذا مذهب الشافعي ثم نقل عن أبي حنيفة أن النكاح لا ينفسخاستحسانا، لأنه لم يختلف بهما الدين، فأشبه ما لو أسلما، ثم نقض صاحب المغني قياسهطردا وعكسا".
وإذا تبين أن نكاح المرتد لا يصح من مسلم سواء كان أنثى أم رجلا،وأن هذا مقتضى دلالة الكتاب والسنة، وتبين أن تارك الصلاة كافر. بمقتضى دلالةالكتاب والسنة، وقول عامة الصحابة، تبين أن الرجل إذا كان لا يصلي وتزوج امرأةمسلمة، فإن زواجه غير صحيح، ولا تحل له المرأة بهذا العقد، وأنه إذا تاب إلى اللهتعالى ورجع إلى الإسلام وجب عليه تجديد العقد. وكذلك الحكم لو كانت المرأة هيالتي لا تصلي.
وهذا بخلاف أنكحة الكفار حال كفرهم، مثل أن يتزوج كافر بكافرة، ثمتسلم الزوجة فهذا إن كان إسلامها قبل الدخول انفسخ النكاح، وإن كان إسلامها بعده لمينفسخ النكاح، ولكن ينتظر فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة، فهي زوجته، وإن انقضتالعدة قبل إسلامه فلا حق له فيها، لأنه تبين أن النكاح قد انفسخ منذ أن أسلمت.
وقد كان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون مع زوجاتهم،ويقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، على أنكحتهم، إلا أن يكون سبب التحريم قائما، مثلأن يكون الزوجان مجوسيين وبينهما رحم محرم، فإذا أسلما حينئذ فرق بينهما لقيام سببالتحريم.
وهذه المسألة ليست كمسألة المسلم الذي كفر بترك الصلاة، ثم تزوجمسلمة فإن المسلمة لا تحل للكافر بالنص والإجماع، كما سبق ولو كان الكافر أصليا غيرمرتد، ولهذا لو تزوج كافر مسلمة فالنكاح باطل، ويجب التفريق بينهما فلو أسلم وأرادأن يرجع إليها، لم يكن له ذلك إلا بعقد جديد .
7. حكم أولاد تارك الصلاة من مسلمة تزوج بها:
فأما بالنسبة للأم فهو أولاد لها بكل حال.
وأما بالنسبة للمتزوج فعلى قول من لا يرى كفر تارك الصلاة فهوأولاده يلحقون به بكل حال لأن نكاحه صحيح.
وأما على قول من يرى كفر تارك الصلاة وهو الصواب على ما سبق تحقيقهفي -الفصل الأول- فإننا ننظر:
* فإن كان الزوج لا يعلم أن نكاحه باطل، أو لا يعتقد ذلك، فالأولادأولاده يلحقون به، لأن وطأه في هذه الحال مباح في اعتقاده، فيكون وطء شبهة ووطءالشبهة يلحق به النسب.
* وإن كان الزوج يعلم أن نكاحه باطل ويعتقد ذلك، فإن أولاده لايلحقون به، لأنهم خلقوا من ماء من يرى أن جماعه محرم لوقوعه في امرأة لا تحل له.
ثانيا: الأحكام الأخروية المترتبة على الردة:
1. أن الملائكة توبخه، وتقرعه.
بل تضرب وجوههم وأدبارهم.
قال الله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة، يضربون وجوههم وأدبارهم،وذوقوا عذاب الحريق. ذلك بما قدمت أيديكم، وأن الله ليس بظلامللعبيد}. (الأنفال:50،51).
2. أنه يحشر مع أهل الكفر والشرك لأنه منهم.
قال الله تعالى: {احشروا الذين ظلمواوأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم}.(الصافات:22،23). والأزواج جمع (زوج) وهو (الصنف) أي احشروا الذينظلموا ومن كان من أصنافهم من أهل الكفر والظلم.
3. الخلود في النار أبد الآبدين:
لقوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا. خالدينفيها أبدا لا يجدون ولياً ولا نصيراً. يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتناأطعنا الله وأطعنا الرسولا} (الأحزاب:64-66).
وإلى هنا انتهى ما أردنا القول فيه في هذه المسألة العظيمة التيابتلي بها كثير من الناس.
* وباب التوبة مفتوح لمن أراد أن يتوب. فبادر أخي المسلم إلىالتوبة إلى الله عز وجل مخلصا لله تعالى، نادما على ما مضى، عازما على ألا تعود،مكثراً من الطاعات. {فمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهمحسنات، وكان الله غفوراً رحيماً. ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى اللهمتابا}.
أسأل الله تعالى أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يهدينا جميعا صراطهالمستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين،غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
تم بقلم الفقير إلى الله تعالى