ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
تتقلب بنا الحياة من حال إلى حال، من رغد إلى ضيق ومن حزن إلى فرح ، ومن عسر إلى يسر، وليس منا إلا وقد مر بمشكلة أو تجربة مؤلمة أهمته وشغلت باله حتى بدت له الحياة وكأنها كلها ضيق وكدر، وقد نظل أسرى مثل هذه التقلبات فنعيش في قبة مشاعرنا السلبية الموهنة لعزائمنا، ضمن جدران نبنيها بمشاعرنا وتوهماتنا أكثر مما تبنيها ذات المشكلة أو التجربة، فيتضخم حجم المصيبة في حسنا حتى لا نكاد نرى غيرها، مما يجعلنا نبدو لوحدنا كمأساة بشرية نبث المشاعر السلبية والإحباط فيمن حولنا لنزيد من سوء الوضع وثقله علينا
ولقد أورد الله جل وعلا في كتابه كثيرا من الآيات التي تدعونا لهجرة وتغيير الأوضاع التي تجعلنا نبدو هكذا ضعفاء وسلبيين أمام ما يصيبنا من محن وأزمات، فأرض الله وآفاق رحمته واسعة أوسع مما قد نتصور، قال سبحانه
ـ(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ..) .. فالهجرة قد تعني هجرة مادية كما في تفسير الآية، وقد تدل على الهجرة المعنوية، هجرة مشاعرنا السلبية التي حصرنا أنفسنا داخلها، وهجرة تصوراتنا المحددة للوضع الأمثل لنا، فنعتقد أنه الحل لجميع مشاكلنا وتوقف آلامنا
إنه لمن المحبط أن نربط سعادتنا بصورة متخيلة في أذهاننا للوضع الذي ينبغي أن تكون عليه الأمور، وضع لا نملك تنفيذه وليس في أيدينا حياله سوى الأمل، ولكنه قد يكون أحيانا مجرد سراب، و ربما يكون مصيرنا لو أصررنا عليه أسوأ من الوضع المشكل الذي نعيشه. فتفويض أمورنا كلها لخالقنا وحده وتوسيع أفقنا أبعد ما مساحة القبة التي ضربناها فوق رؤوسنا، تجعلنا نكتشف ما يتيحه الله لنا من منح في منحتنا وفرص وسط معاناتنا، فما من محنة إلا وفي أعطافها منحة ولكننا نأبى إلا أن نستبدل الذي هو أدنى
( صورة الحل في أذهاننا ) بالذي هو خير ( قدر الله لنا ومنحه )
وقد يكون تجاوز المحنة والأزمة بالتغاضي أحيانا وتجاهل مشاعرنا وأسبابها ومنشأها والتوقف عن الحديث كيف حدث ولماذا حدث وماذا فعل بنا فلان وماذا فعلت بنا فلانة، والبدء من جديد قد يكون أفضل الحلول على الإطلاق لو حاولنا اكتشافه . فحين يتعرض احدنا لموقف بدا له مؤلم أو مشين من شخص ( ابن أو زوج أو صديق ..الخ) وهبه الكثير من وقته وجهده والأهم مشاعره قد نزيد من معاناتنا بالرثاء على ذواتنا وبالحديث عما فعلنا له وكيف أضاعنا حياتنا معه، فلا شي يمكن أن يعيد الزمن للوراء وسنبدو كمن يضرب رأسه بالجدار، بينما سنكتشف معنى جديد للحياة لم نذقه من قبل مع التجاهل وغض الطرف عن كثير من مثل هذه الأمور، فالتسامح ليس مكرمة نقدمها للآخرين بقدر ما هي وصفة لراحة القلب نقدمها لأنفسنا
ومهما كره الواحد منا أسئلة الناس المتكررة والتي تبدو له أحيانا مفرغة من المعنى، فليس الحل هو في اعتزالهم، فكما قيل في الأثر " إنما الذئب يأكل من الغنم القاصية" فاعتزال الناس يزيد من إحكام تأثير مشاعرنا السلبية الخانقة ويعيق عملية التفكير السليم ، بينما حين نجبر أنفسنا فنختلط بالناس، نكتشف أن صخب الحياة معهم، يطغى على صوت أنيننا وتأمل أحوالهم ينسينا بعض ما نشعر به ويتيح لنا مساحة راحة من ألمنا وتفكيرنا المستمر به، وربما هذا كل ما نحتاجه لنجد طريقنا للحل
إن قدرتنا على تجاوز مشاعرنا السلبية تلك سيفرضها الزمن ويحكيها، لنكتشف فجأة وبعد مدة من الزمان أننا استيقظنا صباحا ولم نبلل وسائدنا بدموعنا كما العادة، وأن مساحة الألم في قلوبنا قد تقلصت، فقد عادت قلوبنا للضحك من جديد، ولكن لماذا ننتظر فتضيع منا الأيام ونحن أسرى أحزاننا وآلامنا فتضيع معها أفضل الفرص والخيارات التي كان من الممكن أن تغير مجرى الحياة .. حياتنا ؟